فصل: تفسير الآيات (136- 159):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (105- 135):

{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)}
قوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين} أنث الفعل لكونه مسنداً إلى قوم، وهو في معنى الجماعة، أو الأمة، أو القبيلة، وأوقع التكذيب على المرسلين، وهم لم يكذبوا إلاّ الرسول المرسل إليهم، لأن من كذب رسولاً فقد كذب الرسل، لأن كلّ رسول يأمر بتصديق غيره من الرسل. وقيل: كذبوا نوحاً في الرسالة، وكذبوه فيما أخبرهم به من مجيء المرسلين بعده. {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ} أي: أخوهم من أبيهم، لا أخوهم في الدين. وقيل: هي أخوة المجانسة، وقيل: هو من قول العرب: يا أخا بني تميم، يريدون واحداً منهم {أَلاَ تَتَّقُونَ} أي: ألا تتقون الله بترك عبادة الأصنام، وتجيبون رسوله الذي أرسله إليكم؟ {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} أي إني لكم رسول من الله أمين فيما أبلغكم عنه، وقيل: أمين فيما بينكم، فإنهم كانوا قد عرفوا أمانته وصدقه {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} أي اجعلوا طاعة الله وقاية لكم من عذابه، وأطيعون فيما آمركم به عن الله من الإيمان به وترك الشرك، والقيام بفرائض الدين {وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أي ما أطلب منكم أجراًعلى تبليغ الرسالة، ولا أطمع في ذلك منكم {إِنْ أَجْرِيَ} الذي أطلبه وأريده {إِلاَّ على رَبّ العالمين} أي ما أجري إلاّ عليه، وكرّر قوله: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} للتأكيد والتقرير في النفوس مع كونه علق كل واحد منهم بسبب، وهو الأمانة في الأوّل، وقطع الطمع في الثاني، ونظيره قولك: ألاّ تتقي الله في عقوقي وقد ربيتك صغيراً؟ ألاّ تتقي الله في عقوقي وقد علمتك كبيراً؟ وقدّم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته؛ لأن تقوى الله علة لطاعته.
{قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون} الاستفهام للإنكار أي كيف نتبعك ونؤمن لك، والحال أن قد اتبعك الأرذلون؟ وهم جمع أرذل، وجمع التكسير أرذال، والأنثى: رذلى، وهم الأقلون جاهاً ومالا، والرذالة الخسة والذلة، استرذلوهم لقلة أموالهم وجاههم، أو لاتضاع أنسابهم. وقيل: كانوا من أهل الصناعات الخسيسة، وقد تقدم تفسير هذه الآيات في هود. وقرأ ابن مسعود، والضحاك، ويعقوب الحضرمي: {وأتباعك الأرذلون} قال النحاس: وهي قراءة حسنة، لأن هذه الواو تتبعها الأسماء كثيراً، وأتباع جمع تابع، فأجابهم نوح بقوله: {وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} كان زائدة، والمعنى: وما علمي بعملهم أي لم أكلف العلم بأعمالهم. إنما كلفت أن أدعوهم إلى الإيمان والإعتبار به، لا بالحرف والصنائع والفقر والغنى، وكأنهم أشاروا بقولهم: {واتبعك الأرذلون} إلى أن إيمانهم لم يكن عن نظر صحيح، فأجابهم بهذا. وقيل: المعنى: إني لم أعلم أن الله سيهديهم ويضلكم.
{إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبّي لَوْ تَشْعُرُونَ} أي ما حسابهم، والتفتيش عن ضمائرهم وأعمالهم إلاّ على الله لو كنتم من أهل الشعور والفهم، قرأ الجمهور: {تشعرون} بالفوقية، وقرأ ابن أبي عبلة وابن السميفع والأعرج وأبو زرعة بالتحتية، كأنه ترك الخطاب للكفار، والتفت إلى الإخبار عنهم.
قال الزجاج: والصناعات لا تضرّ في باب الديانات، وما أحسن ما قال: {وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين} هذا جواب من نوح على ما ظهر من كلامهم من طلب الطرد لهم: {إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي ما أنا إلا نذير موضح لما أمرني الله سبحانه بإبلاغه إليكم، وهذه الجملة كالعلة لما قبلها. {قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يانوح لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين} أي إن لم تترك عيب ديننا وسبّ آلهتنا لتكونن من المرجومين بالحجارة. وقيل: من المشتومين، وقيل: من المقتولين، فعدلوا بعد تلك المحاورة بينهم وبين نوح إلى التجبر والتوعد، فلما سمع نوح قولهم هذا، قال: {رَبّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} أي أصرّوا على تكذيبي، ولم يسمعوا قولي، ولا أجابوا دعائي {فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً} الفتح: الحكم أي احكم بيني وبينهم حكماً، وقد تقدّم تحقيق معنى الفتح {وَنَجّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ المؤمنين}.
فلما دعا ربه بهذا الدعاء استجاب له، فقال: {فأنجيناه وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك المشحون} أي السفينة المملوءة، والشحن ملء السفينة بالناس، والدوابّ، والمتاع {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الباقين} أي ثم أغرقنا بعد إنجائهم الباقين من قومه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي: علامة وعبرة عظيمة {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} كان زائدة عند سيبويه، وغيره على ما تقدّم تحقيقه {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} أي القاهر لأعدائه، الرحيم بأوليائه.
{كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين} أنث الفعل باعتبار إسناده إلى القبيلة، لأن عاداً اسم أبيهم الأعلى. ومعنى تكذيبهم المرسلين مع كونهم لم يكذبوا إلا رسولاً واحداً قد تقدّم وجهه في قصة نوح قريباً {إِذ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} الكلام فيه كالكلام في قول نوح المتقدم قريباً، وكذا قوله: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ على رَبّ العالمين} الكلام فيه كالذي قبله سواء {أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ ءايَةً تَعْبَثُونَ} الريع: المكان المرتفع من الأرض جمع ريعة، يقال: كم ريع أرضك؟ أي كم ارتفاعها. قال أبو عبيدة: الريع: الارتفاع جمع ريعة.
وقال قتادة، والضحاك، والكلبي: الريع الطريق، وبه قال مقاتل والسديّ. وإطلاق الريع على ما ارتفع من الأرض معروف عند أهل اللغة، ومنه قول ذي الرمة:
طراق الخوافِي مشرف فوق ريعة ** بذي ليله في ريشه يترقرقُ

وقيل: الريع الجبل، واحده ريعة، والجمع أرياع.
وقال مجاهد: هو الفجّ بين الجبلين، وروي عنه أنه الثنية الصغيرة، وروي عنه: أيضاً أنه المنظرة.
ومعنى الآية: أنكم تبنون بكل مكان مرتفع علماً تعبثون ببنيانه، وتلعبون بالمارة، وتسخرون منهم، لأنكم تشرفون من ذلك البناء المرتفع على الطريق، فتؤذون المارة، وتسخرون منهم.
وقال الكلبي: إنه عبث العشارين بأموال من يمرّ بهم حكاه الماوردي. قال ابن الأعرابي: الريع الصومعة، والريع: البرج يكون في الصحراء، والريع: التلّ العالي، وفي الريع لغتان كسر الراء وفتحها. {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ} المصانع: هي الأبنية التي يتخذها الناس منازل. قال أبو عبيدة: كل بناء مصنعة منه، وبه قال الكلبي وغيره، ومنه قول الشاعر:
تركن دارهم منهم قفارا ** وهدّمنا المصانع والبروجا

وقيل: هي الحصون المشيدة، قاله مجاهد، وغيره، وقال الزجاج: إنها مصانع الماء التي تجعل تحت الأرض واحدتها: مصنعة ومصنع، ومنه قول لبيد:
بلينا وما تبلى النجوم الطوالع ** وتبقى الجبال بعدنا والمصانع

وليس في هذا البيت ما يدلّ صريحاً على ما قاله الزجاج، ولكنه قال الجوهري: المصنعة بضم النون: الحوض يجمع فيه ماء المطر، والمصانع: الحصون.
وقال عبد الرزاق: المصانع عندنا بلغة اليمن القصور العالية. ومعنى {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}: راجين أن تخلدوا، وقيل: إن لعل هنا للاستفهام التوبيخي أي هل تخلدون، كقولهم: لعلك تشتمني أي هل تشتمني؟ وقال الفراء: كي تخلدوا، لا تتفكرون في الموت. وقيل: المعنى: كأنكم باقون مخلدون. قرأ الجمهور: {تخلدون} مخففاً. وقرأ قتادة بالتشديد.
وحكى النحاس أن في بعض القراءات: {كأنكم مخلدون}، وقرأ ابن مسعود: {كي تخلدوا}.
{وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} البطش: السطوة والأخذ بالعنف. قال مجاهد وغيره: البطش العسف قتلاً بالسيف، وضرباً بالسوط. والمعنى: فعلتم ذلك ظلماً، وقيل: هو القتل على الغضب قاله الحسن، والكلبي. قيل: والتقدير: وإذا أردتم البطش، لئلا يتحد الشرط، والجزاء، وانتصاب {جبارين} على الحال. قال الزجاج: إنما أنكر عليهم ذلك لأنه ظلم، وأما في الحق، فالبطش بالسوط والسيف جائز. ثم لما وصفهم بهذه الأوصاف القبيحة الدالة على الظلم والعتوّ والتمرّد والتجبر أمرهم بالتقوى، فقال: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} أجمل التقوى ثم فصلها بقوله: {واتقوا الذي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بأنعام وَبَنِينَ}، وأعاد الفعل للتقرير والتأكيد {وجنات وَعُيُونٍ} أي بساتين، وأنهار وأبيار. ثم وعظهم وحذرهم فقال: {إِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} إن كفرتم، وأصررتم على ما أنتم فيه ولم تشكروا هذه النعم، والمراد بالعذاب العظيم: الدنيوي والأخروي.
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس {قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ} أي: أنصدّقك؟.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد {واتبعك الأرذلون} قال: الحوّاكون.
وأخرج أيضاً عن قتادة قال: سفلة الناس، وأراذلهم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {الفلك المشحون} قال: الممتلئ.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه، أنه قال: «أتدرون ما المشحون؟ قلنا: لا، قال: هو الموقر».
وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: هو المثقل.
وأخرج ابن جرير عنه أيضاً: {بِكُلّ رِيعٍ} قال: طريق {ءَايَةً} قال: علماً {تَعْبَثُونَ} قال: تلعبون.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً: {بِكُلّ رِيعٍ} قال: شرف.
وأخرجوا أيضاً عنه: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} قال: كأنكم تخلدون.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً: {جَبَّارِينَ} قال: أقوياء.

.تفسير الآيات (136- 159):

{قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)}
أي وعظك، وعدمه {سَوَآء} عندنا لا نبالي بشيء منه، ولا نلتفت إلى ما تقوله.
وقد روى العباس عن أبي عمرو، وروى بشر عن الكسائي {أَوَعَظْتَ} بإدغام الظاء في التاء، وهو بعيد، لأن حرف الظاء حرف إطباق إنما يدغم فيما قرب منه جدًّا، وروى ذلك عن عاصم والأعمش وابن محيصن. وقرأ الباقون بإظهار الظاء {إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الأولين} أي: ما هذا الذي جئتنا به، ودعوتنا إليه من الدين إلاّ خلق الأوّلين أي عادتهم التي كانوا عليها. وقيل: المعنى: ما هذا الذي نحن عليه إلاّ خلق الأوّلين وعادتهم، وهذا بناء على ما قاله الفراء، وغيره: إن معنى: {خُلُقُ الأولين}: عادة الأوّلين. قال النحاس: خلق الأوّلين عند الفراء بمعنى عادة الأوّلين.
وحكى لنا محمد بن الوليد عن محمد بن يزيد قال: {خُلُقُ الأولين}: مذهبهم، وما جرى عليه أمرهم. والقولان متقاربان. قال: وحكى لنا محمد بن يزيد أن معنى {خُلُقُ الأولين}: تكذيبهم. قال مقاتل: قالوا: ما هذا الذي تدعونا إليه إلاّ كذب الأوّلين. قال الواحدي: وهو قول ابن مسعود ومجاهد. قال: والخلق والاختلاق الكذب، ومنه قوله: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} [العنكبوت: 17]. قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب: {خلق الأوّلين} بفتح الخاء، وسكون اللام. وقرأ الباقون بضم الخاء، واللام. قال الهروي: معناه على القراءة الأولى: اختلاقهم، وكذبهم. وعلى القراءة الثانية: عادتهم، وهذا التفصيل لابد منه. قال ابن الأعرابي: الخلق: الدين، والخلق: الطبع، والخلق: المروءة. وقرأ أبو قلابة بضم الخاء، وسكون اللام، وهي تخفيف لقراءة الضم لهما، والظاهر: أن المراد بالآية هو قول من قال: ما هذا الذي نحن عليه إلا عادة الأوّلين وفعلهم، ويؤيده قولهم: {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} أي على ما نفعل من البطش، ونحوه مما نحن عليه الآن. {فَكَذَّبُوهُ فأهلكناهم} أي بالريح كما صرح القرآن في غير هذا الموضع بذلك {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} تقدّم تفسير هذا قريباً في هذه السورة.
ثم لما فرغ سبحانه من ذكر قصة هود وقومه، ذكر قصة صالح وقومه، وكانوا يسكنون الحجر، فقال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ} إلى قوله: {إِلاَّ على رَبّ العالمين} قد تقدّم تفسيره في قصة هود المذكورة قبل هذه القصة. {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا ءامِنِينَ} الاستفهام للإنكار. أي: أتتركون في هذه النعم التي أعطاكم الله آمنين من الموت والعذاب باقين في الدنيا. ولما أبهم النعم في هذا فسرها بقوله: {فِي جنات وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ}، والهضيم: النضيح الرخص اللين اللطيف، والطلع: ما يطلع من الثمر، وذكر النخل مع دخوله تحت الجنات لفضله على سائر الأشجار، وكثيراً ما يذكرون الشيء الواحد بلفظ يعمه وغيره كما يذكرون النعم ولا يقصدون إلاّ الإبل، وهكذا يذكرون الجنة، ولا يريدون إلاّ النخل.
قال زهير:
كأن عيني في غربي مقبلة ** من النواضح تسقي جنة سحقاً

وسحقاً جمع سحوق، ولا يوصف به إلاّ النخل. وقيل: المراد بالجنات غير النخل من الشجر، والأوّل أولى.
وحكى الماوردي في معنى {هضيم} اثني عشر قولاً، أحسنها وأوفقها للغة ما ذكرناه. {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً فارهين} النحت: النجر، والبري، نحته ينحته بالكسر: براه. والنحاتة: البراية، وكانوا ينحتون بيوتهم من الجبال لما طالت أعمارهم وتهدّم بناؤهم من المدر. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن ذكوان: {فرهين} بغير ألف. وقرأ الباقون: {فارهين} بالألف. قال أبو عبيدة وغيره: وهما بمعنى واحد. والفره: النشاط، وفرّق بينهما أبو عبيد وغيره فقالوا: {فارهين} حاذقين بنحتها، وقيل: متجبرين، و{فرهين} بطرين أشرين، وبه قال مجاهد، وغيره. وقيل: شرهين.
وقال الضحاك: كيسين.
وقال قتادة: معجبين ناعمين آمنين، وبه قال الحسن. وقيل: فرحين، قاله الأخفش.
وقال ابن زيد: أقوياء {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ * وَلاَ تُطِيعُواْ أَمْرَ المسرفين} أي المشركين، وقيل: الذين عقروا الناقة، ثم وصف هؤلاء المسرفين بقوله. {الذين يُفْسِدُونَ في الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ} أي ذلك دأبهم يفعلون الفساد في الأرض، ولا يصدر منهم الصلاح ألبتة {قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين} أي الذين أصيبوا بالسحر قاله مجاهد، وقتادة. وقيل: المسحر هو: المعلل بالطعام والشراب قاله الكلبي، وغيره، فيكون المسحر الذي له سحر، وهو الرئة، فكأنهم قالوا: إنما أنت بشر مثلنا تأكل وتشرب. قال الفراء: أي: إنك تأكل الطعام والشراب، وتسحر به، ومنه قول امرئ القيس أو لبيد:
فإن تسألينا: فيم نحن؟ فإننا ** عصافير من هذا الأنام المسحر

وقال امرؤ القيس أيضاً:
أرانا موضعين لحتم غيب ** ونسحر بالطعام وبالشراب

قال المؤرّج: المسحر المخلوق بلغة ربيعة. {مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فَأْتِ بِئَايَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} في قولك، ودعواك {قَالَ هذه نَاقَةٌ} الله {لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} أي لها نصيب من الماء، ولكم نصيب منه معلوم، ليس لكم أن تشربوا في اليوم الذي هو نصيبها، ولا هي تشرب في اليوم الذي هو نصيبكم. قال الفراء: الشرب الحظ من الماء. قال النحاس: فأما المصدر، فيقال: فيه شرب شِرباً، وشُرباً، وأكثرها المضموم، والشرب بفتح الشين جمع شارب، والمراد هنا: الشرب بالكسر، وبه قرأ الجمهور فيهما، وقرأ ابن أبي عبلة بالضم فيهما {وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي لا تمسوها بعقر، أو ضرب، أو شيء مما يسوؤها، وجواب النهي فيأخذكم {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نادمين} على عقرها، لما عرفوا أن العذاب نازل بهم، وذلك أنه أنظرهم ثلاثاً، فظهرت عليهم العلامة في كلّ يوم، وندموا حيث لا ينفع الندم، لأن ذلك لا يجدي عند معاينة العذاب وظهور آثاره.
{فَأَخَذَهُمُ العذاب} الذي وعدهم به.
وقد تقدّم تفسير قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} في هذه السورة، وتقدّم أيضاً تفسير قصة صالح وقومه في غير هذه السورة.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} قال: معشب.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: أينع وبلغ.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: أرطب واسترخى.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {فَرِهِينَ} قال: حاذقين.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: {فَرِهِينَ} أشرين.
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: شرهين.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والخطيب وابن عساكر من طرق عن ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين} قال: من المخلوقين، وأنشد قول لبيد بن ربيعة:
فإن تسألينا فيم نحن....

البيت.
وأخرج عبد بن حميد عنه أيضاً في قوله: {لَّهَا شِرْبٌ} قال: إذا كان يومها أصدر لها لبناً ما شاؤوا.